أظن أن المداومة على أداء الصلوات بانتظام هو من أكثر الأمور تعقيداً في الحياة. فلقد سئمت حقاً من كثرة المحاولة والسقوط، فلماذا يبدو الأمر بهذه الصعوبة بالنسبة إلي؟
هل هناك من يحافظ حقاً على أداء صلواته على وقتها، ويلتزم بها لعدة سنوات، دون أن يتخلف عنها إلا بوجود عذرٍ حقيقي؟ أم أن جميع المسلمين يحصل معهم ما يحصل معي، فيحاولون الالتزام على أداء الصلاة، فينجحون تارةً ويفشلون تارةً أخرى؟
إنني أكاد لا أعرف أحداً ممن هم حولي إلا وأراه لا يصلي مطلقاً، أو يصلي بشكلٍ متقطعٍ كما أفعل أنا، أو يؤدي صلوات المناسبات فقط، كصلاة الجمعة وصلاة العيد وصلاة الجنازة.
أشعر حقاً بخطرٍ حقيقيٍّ لا أرى منه مهرباً عندما أتذكر حديث سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام: “إنَّ بيْنَ الرَّجُلِ وبيْنَ الشِّرْكِ والْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ”[1]
فماذا أفعل؟
أولاً، وقبل الإجابة على هذا السؤال، لنتخيل معاً حياة السائل، فهو لن يخرج بحالٍ من الأحوال عن ثلاثة احتمالات.
الاحتمال الأول أن السائل قد يكون بطبيعة حاله شخصاً يحب الراحة والاسترخاء أكثر من النجاح، ولا يلتزم في عمله أو دراسته، وينام ويتكاسل عن واجباته اليومية العادية، كالاعتناء بنظافته الشخصية أو القيام بتنظيف غرفته. ويبدو أن هناك من يجهز الطعام لهذا الشخص، وهناك من يعمل ليعوله، فلا حاجة له للقيام بأي واجبٍ أو عمل.
ومن البديهي بالنسبة لشخصٍ كهذا أن يجد صعوبةً بالغةً في المحافظة على أداء الصلاة، فهذا أمرٌ منطقيٌّ للغاية، فحياته لا تشبه حياة الإنسان الطبيعي أصلاً، حتى نطلب منه المواظبة على الصلاة.
وفي هذه الحالة، فإن مشكلة هذ الشخص لا تكمن في الصلاة نفسها، بل هي أكبر من ذلك بكثير. فمثله يحتاج أولاً إلى بذل كثيرٍ من الجهد والعمل والمتابعة ممن حوله حتى يصبح قادراً على تحمل المسؤولية كما ينبغي، وبعد ذلك نطالبه بما نطالب به الناس الأسوياء من الدراسة والعمل والعبادة.
الاحتمال الثاني هو أن السائل شخصٌ سويٌّ، ولديه ما يقوم به كالعمل أو الدراسة، لكنه غير مصدقٍ لحقيقة الدين والبعث والحساب، على الرغم من أنه مسلمٌ في الهوية، وقد وُلد من أبوين مسلمين.
يعترف هذا الشخص المسلم بوجود الإله الذي خلقه، وهو على يقينٍ أن الموت ملاقيه يوماً ما لا محالة، لكن تلك المعلومات لا تأخذ في حيز تفكيره أكثر مما يأخذ المخيط إذا أنزل في البحر.
لا يمكن لهذا النمط من المسلمين أن ينتظم على أداء الصلاة إطلاقاً، فهو يحتاج أولاً إلى إعادة ترتيب أولوياته وقيمه في الحياة، ثم إلى فهم تعاليم دين الإسلام التي تمكنه من إقامة شعائر هذا الدين.
أما الاحتمال الثالث، فهو أن هذا الشخص نشيطٌ، ومتفوقٌ في دراسته، ومجدٌّ في عمله، كما أنه يحب الله ورسوله حق المحبة. ويعرف السائل هنا تعاليم دينه جيداً، لكنه يعاني أشد المعاناة في الالتزام بأول فرائضه، وهي الصلاة، ويشعر بتأنيبٍ شديدٍ على كل صلاةٍ تفوته، وقد يترك الصلاة شهراً كاملاً يعيش خلاله مشاعر التأنيب هذه، لتحرمه السعادة وراحة البال طيلة هذه المدة.
يعود هذا الشخص بعد ذلك للمداومة على الصلاة، وقد يصلي قيام الليل أيضاً، ثم لا يلبث أن يترك الصلاة مرةً أخرى. وبذلك تمر سنوات حياته بين هاتين الحالتين، ولا يدري بأيهما يُختَم له.
أقول لهذا السائل:
هوّن عليك، فمحاولاتك السابقة هي خطوةٌ جيدة، ولعلك اقتربت كثيراً من الوصول لمبتغاك، وما عليك الآن إلا أن تقوم بتحليلٍ ودراسةٍ بسيطةٍ لبعض النقاط التي تمكنك بإذن الله من الانتصار والثبات على أداء أهم العبادات.
سألخص لك الحل في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: وهي البيئة المحيطة بك، فقد ذكرت أثناء طرحك لسؤالك في بداية المقال أنك لا تكاد تعرف شخصاً يواظب على أداء صلواته بشكلٍ مستمر، وأن كل من حولك هم بين تاركٍ للصلاة تماماً وبين مصلٍّ في المناسبات كالجمعة والأعياد والجنازات، وبين طاعنٍ في السن مقبلٍ على الموت وعاجزٍ عن العمل وعن فعل الملذات والشهوات، فتجده محافظاً على أداء الصلاة بسهولةٍ شديدة.
جعلك كل هؤلاء تتساءل هل هناك حقاً من يلتزم بالصلاة لسنين طويلة.
الإجابة هي نعم، فهناك من المسلمين العوام وليس فقط من الخواص من لم تفته صلاة الفجر في المسجد طوال أربعين سنةً إلا لسفرٍ أو مرض، وهم أحياء بيننا وموجودون في زماننا هذا، وهم ولله الحمد كثيرون أيضاً.
هذا بالنسبة لسؤالك، أما بالنسبة لمن حولك، فيؤسفني أن أقول لك إنهم أساس مشكلتك.
أريدك أن تصدقني القول، هل هناك من يمر عليك عندما تكون في العمل ليذكرك بتأدية صلاة الظهر إذا حان وقتها، ويحثّك على الذهاب معه إلى المسجد؟ أو هل هناك من يسألك إن كنت قد صليت أم لم تصلِّ بعد؟
هل يتوقف الموظفون في مكان عملك عن أعمالهم أثناء موعد تأدية الصلاة احتراماً لوقتها؟ أم أن الصلاة أمرٌ فرعيٌّ وشخصيٌّ بينك وبين خالقك، وتقضيها في أوقات الاستراحة أو بعد ساعات العمل؟
تريّث بالإجابة على هذا السؤال، ولننتقل الآن إلى الأجواء في منزلك.
هل يجتمع رجال أسرتك حين يؤذن المغرب، ويترافقون في طريقهم إلى المسجد؟ وهل تؤدي نساؤكم صلاة الجماعة في المنزل؟ أم أن لكلٍ منهم حاله ومشاغله؟
ما هي حالكم مع تأدية الصلاة أنت وأصدقاؤك عندما تخرجون معاً في النزهات؟ هل يهب أصدقاؤك لإقامة الصلاة على وقتها، أياً كان نوع النشاط الهام الذي بين أيديهم؟ أم أنهم يؤخرون الصلاة أو يتركونها لحين عودتهم إلى المنزل، فيصلونها في غير وقتها، أو يتركونها كلّياً في نهاية المطاف حتى لا تفسد عليهم نزهتهم وأجواء متعتهم؟
أرجوك، لا تخبرني بالإجابة، فأنا أعرفها جيداً، فكلنا هذا الذي يحارب وحده يا صديقي، فأنّى له أن ينتصر!
وإن انتصر، فستكون ساعات نصره محدودةً للغاية مقارنةً بأيام هزيمته.
فإذا أردت الانتظام على أداء الصلاة، فحُلَّ النقطة الأولى في البداية، وبشكلٍ جذريٍّ وقطعي، على الرغم من الصعوبات التي ستواجهها.
فإن كنت تعمل ضمن بيئة عملٍ لا تحترم صلاتك، فيتوجب عليك إما أن تفرض على هذه البيئة احترامك واحترام أوقات صلواتك، وتجعل منها بيئةً تحثك على الصلاة وتعينك على أدائها في جماعة، أو أن تبحث عن عملٍ آخر يعينك على الانتظام في تأدية الصلاة.
سيدور الآن صراعٌ داخليٌّ في نفسك، بين أن تترك عملك الذي تكسب منه قوت يومك، وبين أن تنتظم في صلاتك، فانظر أيهما أنفع لك، وتذكر أن من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه.
ويجب أن تفعل الأمر نفسه بالنسبة للمنزل أيضاً، فإما أن تسود منزلك أجواء طاعة الله، أو أن تبحث لك عن أسرةٍ تطيع الله، ويحرص أفرادها على طاعتك ويحاسبونك عليها كما يحاسبونك على مالك وعملك.
ما هذا الذي تقول يا هذا؟!
هل أترك زوجتي؟ هل أترك زوجي؟ هل أترك أمي وأبي؟
أين أذهب إذن؟ هل أنام في الشارع؟
أما زوجتك، فتقومها، فأنت رب البيت القائم على أمره، والمحاسب أمام الله تعالى على كل تقصيرٍ في هذا البيت ونظامه. عليك أن تسعى لإنشاء نظامٍ في بيتك يرضى عنه الله ورسوله ما استطعت، وبكل ما أوتيت من فكرٍ وعقل، فإن لم تستطع فأقول لك كما قال خليل الله إبراهيم لابنه إسماعيل عليهما السلام: “غير عتبة بابك”.
أما زوجكِ، فقد مضى على هذا الخطأ وقتٌ طويل، حيث أخبرنا رسول الله عليه الصلاة والسلام أن نزوّج بناتنا ممن نرضى دينه أولاً ثم خلقه. وبما أن الصلاة عماد الدين، فكيف ارتضيتم به زوجاً منذ البداية؟
لن نندب الآن على الماضي، بل سننظر إلى الوقت الحاضر. فستكون مهمتك أصعب بعض الشيء في تربية أولادك وإنشاء المنزل على نظامٍ لا يدعمه رب المنزل من الأساس.
وأما بالنسبة للأب والأم، فإن كانا لا يصليان ولا يقيمان لله طاعةً، فاعلم أنك تعيش معهما في نفس المنزل لفترةٍ من حياتك، فاعمل جيداً وتدرّب حتى تنقضي هذه الفترة وتنتقل إلى منزلٍ بحالٍ أفضل يرتضيه الله ورسوله.
وأما الأصدقاء، فابحث لك عن مجموعةٍ تعينك على الخير، واترك أصدقاء عشرة العمر الذين ضيعوا عمرك، لأنك لن تنتظم على الصلاة أبداً ما داموا حولك، واعلم أن خامس أربعة تجارٍ تاجر، وأن رابع ثلاثة لصوصٍ لص، وأن ثالث اثنين طائعين طائع، مهما تغيرت الأشكال والأنماط والأزمان.
انتهت النقطة التي تتكلم عن البيئة المحيطة بك، وسننتقل الآن إلى النقطة الثانية، وهي ما أسميها بالتيار.
يُتبع
[1] صحيح مسلم